آراء | الجائحة المعلوماتية: تأملات في جوانب مظلمة من تكنولوجيا التواصل – الجزء الثاني

آراء | الجائحة المعلوماتية: تأملات في جوانب مظلمة من تكنولوجيا التواصل – الجزء الثاني

لكي لا يطول الحديث كثيرا، سنركز على بعض العوامل فقط وعلى تصنيفها، ثم نفصل في ذلك قليلا. نقسم هذه العوامل إلى قسمين، عوامل مباشرة تركيبية وتقنية وعوامل غير مباشرة بنيوية تنظيمية، والتي أدّعي أنه من شأنها جميعا أن تزيد من تفشي الجائحة المعلوماتية في خضم أي جائحة بيولوجية.
العوامل التركيبية والتقنية المباشرة:


أما العوامل التركيبية والتقنية المباشرة فتعود إلى استفحال استخدام تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، خصوصا في ظل التباعد الاجتماعي الناتج عن تزايد التوجه نحو الحجر الصحي في هذه الظروف، أين تصبح منصات التواصل الملاذ الطبيعي وربما الوحيد للناس، لا لتقفي المعلومات ونشرها فحسب بل للترويح عن النفس والتعامل مع الملل. إلى هنا لا شيء خارج عن المألوف، لكن الإشكال يكمن في التفاصيل، والتساؤل العميق يلزمنا بالتأمل في الخصائص الأساسية للطريقة التي يتم بها تصميم التفاعل عبر هذه التكنولوجيا، على مستوى الفرد والجماعات، لنفهم كيف تساهم هذه الخصائص في الجائحة المعلوماتية.
فلنلقي نظرة على بعض الخصائص التركيبية لتصميمات منصات التواصل التي تؤثر على طريقة تفاعلنا مع المعلومة وطريقة تفاعل بعضنا مع بعض.


الخاصية الأولى: موضع عملية التحرير في حياة المعلومة
الخاصية الأولى هي “موضع عملية التحرير في حياة المعلومة”، أو المرحلة التي يتم عندها التحري عن مدى صحة المعلومة قبل أن تظهر على ساحة التفاعل.


موضع وآليات هذا التحري تغيرت جذريا بالمقارنة مع وسائل الإعلام التقليدية (كالجرائد والتلفزة والإذاعة) فقد كانت هذه العملية تتم قبل النشر والترويج، ويجند لها مجموعة من المحررين ورؤساء التحرير، وغيرهم من موظفي الإعلام ومصالح الضبط. أما مع تكنولوجيا التواصل الحديثة، فكل فرد أصبح قادرا على خلق محتوى على الإنترنت وعلى نشره والترويج له، فتشتت بذلك مسؤولية التحرير والتحري بين الفرد من جهة، وبين مصممي هذه التكنولوجيا من جهة أخرى والذين يضعون بدورهم مجموعة من المعايير لحظر المحتوى ويفرضونها بطرق مختلفة. فيكون موضع التحرير في حياة المعلومة قد تغير عندئذ بانتقاله من مرحلة تنقيح المحتوى إلى مرحلة الترويج والمشاركة.


ما أثر ذلك التحول والانتقال الذي طرأ على موضع التحرير؟


عملية التحرير التي كانت تعزى إلى مختصين في التحري والتحرير متفرغين لتلك العملية – بغض النظر عن الأجندات الخلفية وما إلى ذلك – تقع اليوم على عاتق أفراد بدون خبرة أو تفرغ، بل لا يعيرون بالا لتلك المسؤولية في غالب الأحيان، وعلى عاتق شركات أولويات ممارساتها ربحية أساسا تعمل في ظل نظام ضبط لايزال قيد التشكيل خصوصا باعتبار امتداد حضورها عبر العالم.


بتحول موضع التحرير يحدث تحول جذري في المدى الزماني والمكاني للنقاشات التي يثيرها مجموع المعلومات المنشورة. فمع الوسائل التقليدية، كانت عملية التعامل مع المعلومة وتقييمها في المجتمع بعد نشرها وظهورها على ساحة التفاعل تتم بوتيرة بطيئة في مدى زماني ممتد يدعو بطبيعة سرعته إلى التمهل والتقيد والتمحيص. كما أن المدى المكاني للمعلومة، باعتبار مكانتها ضمن سياق أو سياقات معينة مكون من مجموع معلومات أخرى، كان يقدم بطريقة واضحة إلى حد ما. أما الموضع الجديد للتحرير والتحري، فيقلص من المدى الزماني للنقاش والتحليل ويشل إمكانية الجمع بين المعلومات من حيث مكانتها بين سلسلة السياقات التي تربطها بغيرها من المعلومات؛ لاحظ مثلا أن أغلبها ينقل بدون سياق واضح ببترها من منبعها الأصلي ثم إلصاقها كرابط على جدار منصة هنا وهناك. هذا التقليص للمدى الزماني والبتر للمكانة السياقية يعلب دورا مباشرا في تقليص فرص التعاطي العميق مع النقاشات التي تدور حول المعلومة المنشورة والتمحيص الدقيق لمآلاتها مع جملة المعلومات والسياقات المرتبطة بها.


المثير للاهتمام في هذا الصدد هو أن الشركات الكبرى في هذا المجال (كغوغل وفايسبوك، وتويتر وانستاغرام، وغيرهم) كانوا أقل انفتاحا حول مسؤولياتهم المباشرة في تعزيز عمليات التحري والتحرير للتقليل من كمية المعلومات الغير دقيقة والخاطئة والزائفة التي تروج على منصاتهم، وهذا لاعتبارات مختلفة من بينها مشكلة التحكم في حظر المحتوى الذي يشكل خطرا على الحريات الفردية، خصوصا عند المجتمعات التي تصبو لرفع الحظر عن حرية التعبير وتنميتها. فلا شك أن هناك خطر واضح في تراكم السيطرة على المعلومة وعلى كيفية تفاعل الناس مع المحتوى بين أيدي شركات ربحية، وما فضيحة كامبرج أنالاتيكا منا ببعيد.


موقف نفس هذه الشركات قد تغير بشكل معتبر مع جائحة الكورونا، بضغوطات خارجية ظرفية لا شك، خصوصا عند المقارنة بأحداث أخرى حديثة العهد، كالحملات الانتخابية الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية أو في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أين كان موقف هذه الشركات أقل صرامة وأكثر عتمة وانغلاقا على نفسها. فقد قررت هذه الشركات أن تلعب دور أكثر وضوحا وفعالية بإعادة النظر في برمجياتها التحريرية – فتغير موضع التحرير يقتضي استحداث أدوات وآليات جديدة كذلك – والتي تعتمد اليوم أساسا على تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تسخر عادة في عملية تعاونية بين البشر والآلة. المفارقة هي أنه مع بدايات تفشي فيروس الكورونا وتصنيفه كجائحة، أجبرت أغلب هذه الشركات على إرسال موظفيها للعمل بالبيت أو للتوقف عن العمل مؤقتا، مما زاد في التركيز على الجانب الآلي في هذه العملية التعاونية وبالتالي التقليل من البصمة البشرية فيها، وهذا ما خفض من مستويات نجاعة العملية التحريرية في بدايات الأزمة [١].


هذه الهفوة، رغم أن تأثيرها في بدايات الأزمة لا يستهان به، قد تم تداركها اليوم، فنجد مثلا مجموعة من الإجراءات مثل وضع حجر على بعض منتجات للبيع على أمازون، أو تقييد نوع الإعلانات على غوغل، كما أن كل من فايسبوك ويوتوب ومايكروسيفت وتويتر يعمل بوتيرة أشد صرامة على رفع مستويات حظر المحتوى وإزالة المعلومات الزائفة أو المرفوضة طبيا. لكن، للأسف، ليس واضحا إلى أي مدى تصل هذه الإجراءات إلى المحتوى المتنج باللغة العربية.


هذا نأتي إلى النقطة الأشد أهمية، ففي خضم هذا كله ما يقع أمام أعيننا هو صراع حول مراتع السيطرة على تدفق المعلومة وطريقة التفاعل معها، وبالتالي حول صياغة جملة المفاهيم والأسس التي ستشكل التركيبة المجتمعية الجديدة، السياسية منها والاقتصادية، أي صياغة كل من السرديات التاريخية والمستقبلية التي ستمثل قاعدة الانطلاقة الجديدة لعالم ما بعد الجائحتين، وهذا لا يقتصر على كل ما له علاقة ببروز هذا الفيروس وكيفيات التعامل معه فحسب، بل ينعكس كذلك على سرديات وآليات السيطرة والقوة والنفوذ في تشكيل هذا العالم الجديد.


المقلق في الأمر هو أن جزءا مهما من هذا الصراع المعنوي السردي يتم عبر تكنولوجيا التواصل وبالتالي يضع هذه الشركات الضخمة وطرق تصميمها لتدفق المعلومات ورواجها، ثم القوى المتحكمة في حركية المعلومات عبر الإنترنت، يضع هؤلاء جمعيا في موضع قوة جوهري لرصد وتوجيه وصناعة الرأي، بل وصياغة السلوك والإدراك الفردي والجمعي مباشرة، خصوصا باعتبار تحول هذه التكنولوجيا إلى قنوات رئيسية أو ربما تصبح الوحيدة بين العائلات والأصدقاء وأفراد المجتمع عامة، وهو ما سيضع شعوبنا – الشعوب التي تستهلك التكنولوجيا ولا تصنعها – في مرتبة الشعوب التي ستغيب عن الفعل في التاريخ من جديد و باعتبار بعدنا الكامل عن عمليات التقنين والضبط في مجرى التطور التكنولوجي في هذا المجال، سيضعنا في مقام من سيُفعل به مرة أخرى..


..يتبع بالخاصية الثانية: التصميم التفاعلي المعزز للإدمان وللتفكير السريع
–المراجع:[١] https://www.bbc.co.uk/news/technology-51926564

About the Author

Oussama Metatla administrator

Dr. Oussama Metatla is an EPSRC Research Fellow at the Department of Computer Science, University of Bristol, specialising in Human-Computer Interaction. He is co-founder of Anas.org and founder and editor-in-chief of Inspire Magazine.

Leave a Reply

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.