عن ظاهرة القراءة والترقّي من التلقّي الثقافي إلى بدايات الفعل الحضاري: محاضرة موجهة إلى المشاركين في بطولة البصائر للقراءة عبر اتصال مباشر من مدينة بريستول ببريطانيا و مدينة قسنطينة بالجزائر
شرائح العرض متوفرة على هذا الرابط: https://drive.google.com/file/d/0BxMH…
و هذا نص المحاضرة:
بسم الله ، و الصلاة و السلام على رسول الله. السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أبدأ أولا بشكر القائمين على هذه المبادرة على حسن ظنهم بي إذ دعوني للحضور و أحييهم على مجهوداتهم و أحيي الحاضرين على شغفهم بالقراءة والمنافسة في هذا السبيل النبيل
لا شك أن القراءة تعد من السبل الرئيسية لتفشي الأفكار و المعارف و نمو المجتمعات و الحضارات ، و أن تراجع القراءة في المجتمع الإنساني ، باعتبار فوائدها ، له نتائج وخيمة . ومن هذا المنطلق تتجلى أهمية مثل هذه المبادرة الرائدة و هذا الملتقى و هذه المنافسة ، خصوصا و أن الكثير من المؤشرات تبين أن مستويات القراءة في العالم ككل في انخفاض حاليا
موضوع القراءة له أبعاد كثيرة و بالتالي لابد من الحصر و الإقتناء حتى يتسع الوقت لطرح واف، و قد طُلب مني التركيز على دور القراءة في التطور المعرفي والحضاري .وفعلا، فإن ما يلفت الإنتباه هو أن الكثير من ممن يتحدث في هذا الموضوع، سرعان ما يصرح ، كما فعلت أنا للتو ، بمدى أهمية القراءة والمطالعة في بناء المجتمعات و الحضارات
و لكن ماذا نقصد بالتحديد عندما نقول إن القراءة من شأنها أن تساهم في بناء حضارة؟ كيف يتم ذلك بالتحديد؟
هذا التساؤل هو المحور الأساسي للتأملات التي أود أن أشارككم إياها في هذا المقام<، وهي تأملات في القراءة من حيث هي ظاهرة أساسية في الفعل الإنساني الحضاري، و سأحاول من خلال هذه التأملات اقتراح تشخيص لأنواع القراءة التي من شأنها أن ترتقي بالفرد ليصل إلى درجة الفعل الحضاري
سأقسم هذه المداخلة إلى قسمين ؛ أحاول في القسم الأول أن أحدد بعض المفاهيم الأولية و الميزات الأساسية للقراءة باعتبارها ظاهرة إنسانية تميزنا عن باقي الكائنات ؛ أما في القسم الثاني، سأحاول طرح فهم لدورها الحضاري في ضوء هذه الميزات، وسأقترح شبه إطار يحدد مستويات مختلفة لنشاط القراءة ، سأحاول تشخيص كل مستوى منها ، و أسباب بعده عن أو قربه من الفعل الحضاري.
و سأترك تحديد مفهوم الفعل الحضاري جانبا، عمدا ، رغم محوريّته في هذا المقام ، و ذلك لأنه مفهوم مركب أولا ، ثم على أساس أننا سنصل معا إلى تحديد جانب منه على الأقل ، حسب نظري له ، من خلال هذا الحديث
هذه إذن لمحة عامة و خطوط عريضة للمداخلة ، الهدف منها محاولة فهم دور القراءة في البناء الحضاري عن طريق وضع شبه إطار تحليلي يربط بين جانبين ؛ جانب يركز على ميزات القراءة كظاهرة إنسانية ، و جانب ثاني يقابل كل ميزة من ميزات القراءة بأحد مستوياتها ، حتى تتحدد بعض ملامح الارتقاء إلى الفعل الحضاري عبر وسيلة القراءة.
لن تخلو المداخلة من الاختصار والتبسيط و بعض السطحية في التحليل بحكم المقام الذي نحن فيه ، و لكن أرجو ألا يخل ذلك كثيرا بالموضوع ، كما أرجو أن لا تكون هذه المداخلة ثقيلة عليكم كثيرا
لنبدأ بالقسم الأول إذا و لننظر إلى ما يميّز القراءة من حيث كونها ظاهرة إنسانية
كثيرا ما يؤدي بنا الاعتياد على معايشة ظاهرة ما إلى إغفال بعض الجوانب الأساسية و الجوهرية التي تميّزها، فلا نتفكر فيها على الإطلاق، أو نأخذها بنوع من البداهة و السطحية تنسينا ما تحمله تلك الظاهرة من خصوصية، و ما يميزها عن باقي الظواهر، رغم أن التفكّر فيها ببعض العمق من شأنه أن يكشف لنا عن جوانب جديدة منها، أو يذكرنا بها، فيمكّننا ذلك من رؤية تلك الظاهرة من زاوية جديدة، مما قد يؤدي بدوره إلى مساعدتنا على بناء وعي جديد بتلك الظاهرة، فتتجلى لنا سبل جديدة لتقييمها وتنميتها والإبداع فيها.
وأعتقد أن هذه النزعة الإعتيادية نزعة طبيعية عند الإنسان ، راسخة فيه ، وأن القراءة من تلك النشاطات التي يمكن للاعتياد على معايشتها أن يؤدي بنا إلى إغفال ميزاتها الجوهرية
وللتخلص من غشاوة المألوف هذه، أحب دائما أن أقوم بتمرين ذهني أظن أنه يساعد نوعا ما على إزالة شوائب الاعتياد عند محاولة رصد معالم ظاهرة ما
أدعوكم لتطبيق هذا التمرين الذهني معي الآن
فلنتخيل معا الآن أن هناك مخلوقا، دعنا نقول فضائيا، يصول و يجول عبر المجرات، حدث أن صادف كوكب الأرض، فتوقف لرصد ما يحدث في هذا المكان الغريب… بالنسبة لهذا المخلوق، كل ما يرصده من ظواهر على سطح هذا الكوكب سيكون جديدا تماما بالنسبة له، وبالتالي غريبا كذلك
و دعنا نفترض أن لهذا المخلوق قدرات تختلف عن قدراتنا نحن البشر ؛ فله القدرة على تتبع ورصد الظواهر من منظور واسع جدا، يمكّنه من تعدي حواجز الحس و حواجز الزمان والمكان
فماذا كان هذا المخلوق ليلاحظ عند رصد هذه الظاهرة التي نطلق عليها تسمية “القراءة” ، و تمعّن فيها وتتبعها عبر السنين؟
سيلاحظ صاحبنا أن هناك كائن على سطح هذا الكوكب ، الذي هو الإنسان ، يقوم من وقت إلى آخر بالتحديق في بعض الرموز التي يجدها مرسومة على جدران كهوف أو صفائح الجريد أو ورق الكتب أو شاشات الحواسيب ، قد تكون من وضع فرد ما بنفسه أو من وضع فرد آخر من نفس الجنس ، و أن هذه الرموز تتفاوت من حيث درجات التجرد ، فمنها ما يصف المحيط الخارجي بدقة ، كرسم حيوانات على جدران الكهوف مثلا، ومنها ما يزداد تجردا حتى ينتهي بها الأمر إلى التعبير على محتوى يتعدى الشكل المادي الذي تمثله
يستنتج صاحبنا أن لهذا الكائن قدرة على الترميز إذن، و على التعبير المجرد و التعبير الملموس الصوري من خلال عملية الترميز تلك
ثم ألقى صاحبنا العجيب هذا نظرة داخل ذهن ذلك الكائن – فهو كما قلنا، لا تقيده الحواجز الحسية – فلاحظ أنه عندما يشرع إنسان ما في عملية وضع هذه الرموز أو التفاعل معها ، فهي تُحدث تأثيرا في وعيه و في محتوى تفكيره . فتأكد صاحبنا الفضائي أن لهذه الرموز محتوى تخترقه نظرات هذا الكائن، يصل بها إلى معنى يكمن وراء تلك الرموز، يؤثر فيه فسيولوجيا و إدراكيا
أول ميزة أساسية استخلصها صاحبنا هي أن الإنسان كائن قادر على إنتاج رموز و إضافتها لمحيطه الخارجي للتعبير عما في ذهنه و عما في محيطه ، و أن عملية الترميز تلك لها تأثير مادي ومعنوي على كل فرد ينشغل بتلك العملية
القدرة على الترميز إذن تؤثر على محتوى وبنية الذهن ، ثم هي تعطي لما كان ذهنيا وجود خارجيا فيصبح ظاهرا للوجود وبالتالي يكتسب قدرة على الانتقال من ذهن فرد إلى ذهن فرد آخر، فيحدث نوع من التواصل بينهما ، و كأن هذه الرموز تلعب دور واسطة قادرة على الربط بين العقول
ثم انتبه صاحبنا أن هذا التواصل يحدث بدون اعتبار زمني أو مكاني ، فإذا بالمحتوى المادي و المعنوي لتلك الرموز ، من معلومات و معارف و تعبيرات مختلفة ، إذا بهذا المحتوى يورَّث و ينتقل عبر الأجيال و الأقطار
يستنتج إذن صاحبا ميزة ثانية أساسية وهي أن هذا الترميز أداة لتجميع و تكديس المعلومات و المعارف ونقلها بين المجموعات الإنسانية عبر الزمان والمكان .
و لم يلاحظ صاحبنا أي كائن آخر على هذا الكوكب يتفاعل عن طريق الرموز بتلك الرِّفعة و ذلك التركيب ، فاستنتج أن هذا الترميز يُخرج الإنسان من الإرث الطبيعي الذي يشترك فيه مع باقي الكائنات
و بجمع المعارف و المعلومات و تكديسها عبر الزمان والمكان، لاحظ صاحبنا أن المجموعات الإنسانية عادة ما تسعى إلى تحصيل معارف مجموعات أخرى، و هو صائب في ذلك فإن أكبر الحضارات عبر التاريخ، كانت لها كتابة، و أحد الوسائل الأساسية التي نعلم من خلالها ما نعلم عما كان من أحوال الأمم والحضارات السابقة و التي نعايشها، هي الوصول إلى نتاجهم الرمزي وتفكيك رموزه فيما كتبوا وما كتب عنهم .
وبهذا ، يتعدى الترميز القراءة و الكتابة ليشمل نطاق أوسع من النتاج الإنساني ، فالترميز أحد السبل الأساسية للتعبير التاريخي إذن و مدونة له يكمّل سبل أخرى – وما تراثنا الشفوي إلا دليل على تعدد تلك السُبل
آخر ميزة لاحظها صاحبنا إذن كانت أكثر ما شد انتباهه ؛ فهذا الترميز له ميزة عجيبة ؛ بعبوره المعنوي عبر عقول أفراد الجنس البشري و جماعاته ، عبر الزمان والمكان ، يصطبغ بخصوصيات الحقبة والمحيط الذي تشكل فيه وبتجارب الأفراد والجماعات التي شكلته، فيعكس هوياتهم و مشاغلهم و نظرتهم التفسيرية للواقع من حولهم
وصل صاحبنا إلى استنتاج آخر ميزة للظاهرة التي كان بصدد رصدها ، وهي أن الترميز ، بتدوينه للتاريخ، يستوعب مضمون ذلك التاريخ بين ثناياه و يحوله و يحوره و يركبه حسب أنساق مختلفة ، متأثرا بإدراك الفرد ومقيدا بسير المجتمع ورؤيته للواقع ، و وجهته في الزمان و المكان ؛ و إذا بالرموز تلك تعبر عن تجارب و خصوصيات فردية و جماعية ضمنيا و صراحة
تعلم صاحبنا الفضائي الكثير إذن عن ظاهرة القراءة و ميزاتها الأساسية و الجوهرية ؛ فهي تنبع عن قدرة على الترميز و التعبير المجرد والصوري الملموس ؛ و تؤثر في حالات الوعي و محتوى الأذهان و طرق التفكير ، وفي سلوك الأفراد و ممارسات الجماعات و تواصلهم بعضهم ببعض؛ كما تلعب دور أداة لجمع المعارف و تكديسها و لتدوين التاريخ و التعبير عنه؛ بل والأعجب من كل ذلك فإنه اكتشف أن هذا الترميز بانتقاله عبر الأذهان في مختلف الأزمنة والأماكن ، يعكس رؤى الأذهان تلك لواقعهم في زمن ما و مكان ما و يعكس خصوصيات جماعة ما ونظرتهم و تفسيرهم للواقع
و إذا حاولنا التأمل في هذه الميزات ، يمكننا أن نلاحظ بدورنا ملاحظتين مهمتين
أولا ، صاحبنا وضع القراءة ضمن نشاط وظاهرة أعمّ هي الترميز ، وبالتالي القراءة تدخل ضمن منظومة أكبر مكونة من التعبير الرمزي الذي يشمل العديد من النشاطات الإنسانية الخارجية و التي لها علاقة بالعالم المعنوي الذهني والمادي ، الفردي منها و الجماعي
ثانيا ، بإمكاننا تصنيف ميزات الترميز- والقراءة أحد جوانبها – إلى ثلاث أقسام أساسية
١) ميزات فردية ، فسيولوجية ، ذهنية ، إدراكية
٢) ميزات تواصلية بين الأفراد والجماعات، تكديسيّة للمعلومات عبر الزمان والمكان
٣) ميزات إستيعابية ، لا لتدوين مضمون التاريخ فحسب ، بل صبغه بمميزات و خصوصيات الزمان والمكان الذي تشكل فيه و تضمينه برؤى الأفراد والجماعات التي شكّلته للواقع وتفسيرهم له
هذه إذن بعض ميزات القراءة كظاهرة إنسانية ، و لكم أن تسترسلوا في خيال صاحبنا الفضائي لاستخلاص مزايا أخرى بدقة أكبر ، ولكن نتوقف هنا و ننتقل إلى الإشكالية التالية ، كيف ننتقل عن طريق القراءة ، من ذلك التحديق في الرموز، إلى الفعل الحضاري المؤثر؟
ننتقل إذن إلى الجانب الثاني من شبه اطارنا التحليلي الذي نحن بصدد بنائه
دعونا نرجع إلى الميزات الأساسية الثلاثة التي أعاننا صاحبنا الفضائي على تسطيرها ، ونحاول أن نرى ما يمكن أن يقابلها من مستويات للقراءة كنشاط إنساني . أقترح أنه يمكننا ربط كل ميزة من تلك الميزات بأحد مستويات القراءة ، باعتبار فوائدها ، نتمكن من خلال ذلك من التدرج من العزوف التام عن القراءة ، إلى ممارستها كهواية و نشاط ثقافي ثم الرقي بها إلى مستوى الفعل الحضاري
و لنبدأ بالمستوى الأول الذي يقابل الميزة الأولى، والتي قلنا إنها تتعلق أساسا بفسيولوجية و إدراك الفرد ، نقابلها بما أطلقت عليه مستوى الإنتقال من العزوف إلى الرفوف
بعيدا عن الأقوال الإنشائية الرومانسية حول القراءة – كأن نقول كما قال عباس محمود العقاد أنها السبيل الوحيد للحصول على أكثر من حياة واحدة ، أو أنها نزهة في عقول الحكماء و سبيل للدخول في حديث مع حكماء العالم ، كما قال فرانسيس بيكون – و بدون الخوض في أسباب العزوف عن القراءة – التي من شأنها أن تأخذ مداخلة كاملة لوحدها – لعله من الممكن تشجيع العازف عن القراءة على البدء في نشاط القراءة بتبيان فوائدها الفسيولوجية و الإدراكية التي تعود عليه
وفعلا ، أثبتت العديد من الدراسات العلمية فوائد فسيولوجية للقراءة ؛ كالخفض من نسب التوتر، والتقليل من حدة فقدان الذاكرة عند الكبر، بل وحتى المساعدة على النوم براحة و بعمق أكثر. فها هو العلم الحديث يروّج للقراءة بإغرائنا بالنوم العميق!
القراءة للذهن والعقل هي بمثابة التمارين الرياضية للجسم ، و هذا ليس مجرد تشبيه إنشائي بليغ ، بل قد وجدت دراسة حديثة قام بها باحثون بمعهد علوم الأعصاب بجامعة إيموري بالولايات المتحدة الأمريكية ، أن الغوص في قراءة رواية خيالية – المقصود بخيالية هنا يتعلق بنوع من الروايات الأدبية تعرف بذلك الإسم أو الفيكشن – يزيد من عدد الروابط العصبية بين خلايا المخ ، و بالتحديد في الجهة اليسرى لقشرة المخ ، وهي منطقة مرتبطة بالنشاط اللغوي والحس الحركي . كما وجدت نفس الدراسة أن قراءة الروايات الخيالية يزيد من قدرات الفرد على وضع أنفسهم في مكان شخص آخر ، أي يزيده من القدرة على العطف على الآخر والتضامن معه ، و كم نحن بحاجة لمثل هذه الأخلاق في المجتمع الإنساني
إذا شخّصنا نشاط القراءة في هذا المستوى إذن سنقول أنه يرتكز أساسا على الفوائد التي تعود على الفرد بما في ذلك الفوائد المعنوية و المادية البحتة . وطبعا، الحضارة لا يبنيها فرد بعينه أو بعزلة عن المجموعة ، فهذا النوع من القراءة أو التحفيز عليها بهذا الجانب ، رغم فوائده ، لن يرتقي بنا إذن إلى الفعل الحضاري
توصّلنا إلى أن الميزة الثانية للقراءة هي ميزة التواصلية عبر الزمان والمكان وبالتالي تكديس و جمع للمعلومات ، و نقابل هذه الميزة بالمستوى الثاني من نشاط القراءة لعلنا نتمكن من خلاله بالانتقال بالقارئ المبتدئ إلى المزيد من التشبث بالقراءة و ذلك بتعداد فوائدها الثقافية الاجتماعية التي تترتب على جمع المعلومات و تكديسها
وعند البحث في هذه النقطة بالذات، لفت انتباهي دراسة اجتماعية مهمة ، وجدت أن أحد العوامل الأساسية الذي يساعد على التنبؤ بمدى نجاح الأطفال في مستقبلهم المهني في الولايات المتحدة هو عدد المفردات التي يتقنونها؛ أي أنك إذا أخذت أي طفل عشوائيا هكذا من الشارع، وتمكنت من تحديد عدد المفردات التي يعرفها ، تستطيع مباشرة أن تستنتج احتمالات نجاحه في المستقبل
و لنأخذ مهلة للتفكّر في هذا قليلا ، أكيد أنكم سمعتم بمقولة “قل لي من تصاحب أقول لك من تكون” ، فهذه الدراسة تقول لنا: “قل لي كم عدد المفردات التي تعرفها أقل لك من ستكون!” بعدد المفردات فقط، يمكننا التنبؤ إذا كان طفل ما سينجح و يرتقى في المجتمع، و يحصل على عمل جيد ، بمدخول جيد و ويرتقي في الرتب، بغض النظر عن مستواه المعيشي الحالي، أو المستوى الثقافي لعائلته، إلخ…
هذا في الولايات المتحدة الأمريكية . النقطة الأهم هنا هي أن هذه الإحصائية تعطينا فكرة جيدة على تركيبة المجتمع المدروس و القيمة التي تحظى بها القراءة فيه ، فهذه الإحصائية تثبت القيمة الحسية العملية الملموسة للقراءة – ف
تنمية معجم المفردات يتم بطريقة أساسية عبر القراءة ، لأن اللغة التي نستخدمها في الكتابة أكثر تنوعا بكثير من الحديث اليومي العادي… وفي هذا إشارة إلى أهمية تربية الأطفال في محيط يعج بطرق تنمية المفردات و الكتب أساس لذلك..
ولنا أن نتساءل ما هي النتائج التي كانت ستخرج بها مثل هذه الدراسة إذا طبقت على مجتمعاتنا اليوم ، ماذا سيكون تأثير معجم المفردات التي يعلمها الفرد على مكانته وقيمته في المجتمع. بتعبير آخر، ما المكانة التي نعطيها للقراءة ، بعيدا عن الشعارات الرنانة و الوصف الإنشائي الطوبوي الرومنسي ، وما هي الاستراتيجيات التي نسطرها لتنميتها في مجتمعنا حتى تكون لها مفعول ملموس في الحياة اليومية على المدى الطويل؟
على كل ، نقطة البداية لا بد أن تكون ضرورة فهم التركيبة الثقافية لمجتمعاتنا اليوم ،و هذا يتم بواسطة دراسات معمقة و إحصائيات مكثفة لرصد ظاهرة القراءة في المجتمع ؛ كم يقرأ الفرد من كتاب في السنة؟ وماذا يقرأ؟ ولماذا يقرأ؟ وكيف يقرأ؟ وكيف يتفاعل عبر القراءة؟ وكم من كتاب ينشر؟ و في أي المجالات؟ و كم من كتب تترجم؟ كل هذه المعلومات الكميّة، معلومات أساسية و ضرورية لفهم تركيبة المجتمع وبالتالي لتسطير إستراتيجيات فعالة من شأنها النهوض بالثقافة والفكر في البلد
مع الأسف مثل هذه المعلومات صعبة المنال بالنسبة للجزائر – أو ربما غير متوفرة على الإنترنت، أو لعلي لا أجيد البحث كثيرا على الإنترنت – مع أنني تمكنت من العثور على الكثير بالنسبة لدول أخرى ، و بسهولة . آخر إحصائيات متوفرة عبر بيانات اليونسكو مثلا، في ما يخص عدد الكتب المنشورة في الجزائر، تعود إلى سنة 1996، وكانت حوالي 700 كتاب ، و للمقارنة تركيا نشرت 40 ألف كتاب سنة 2011 ونشرت الصين 250 ألف سنة 2013 ونشرت الطايوان (التي يبلغ عدد سكانها 23 مليون نسمة) 28 ألف كتاب سنة 2011
لنعد إلى القراءة في هذا المستوى الذي نحن بصدده؛ قلنا أن القراءة تزيد من تراكم المعلومات ، و تزيد من معجم المفردات، وفي ذلك فوائد ثقافية اجتماعية ، فكل ما قرأت أكثر ازدادت معلوماتك و نمت مهاراتك و تحسنت مكانتك في بعض المجتمعات. هذا المستوى كمّي تثقيفي إذا ، وقد نربط القراءة في هذا المستوى بما يمكن أن نطلق عليه ثقافة “هل تعلم” والسؤال الأكثر إلحاحا و الذي يجب أن نطرحه هنا هو؛ هل هذه العملية التجميعية التكديسية التراكمية للمعلومات تنتج معرفة؟ هل ثقافة “هل تعلم” من النوع الذي يرتقي بالفرد الذي يقرأ إلى الفعل الحضاري؟
تساؤل مهم ، والإجابة عنه ليست بالبسيطة ، و من أحسن ما قرأت كإجابة على هذا التساؤل ما ذهب إليه المفكر عبد الوهاب المسيري – رحمه الله – حيث قدم جوابا تحليليا وافيا كافيا على هذا السؤال عبر كتاباته ودراساته لما سماه بالعقل المتلقي السلبي أو النزعة المعلوماتية التي تعاني منها مجتمعاتنا . و ما يقصده المسيري بالعقل المتلقي السلبي ،هي تلك النزعة التي تركز على تجميع و تكديس المعلومات مع الاعتقاد أن الزيادة في المعلومات و الحقائق تؤدي تلقائيا إلى فهم صحيح و تفسير الدقيق للواقع.
يقول المسيري عن هذا التصور المشوّه للمعرفة أنه:
“تصور أن المعرفة هي حشو المعلومات ومراكمتها… تذهب المعلوماتية إلى أن المعلومة مهمة في حد ذاتها، لا بسبب علاقتها بالموضوع الكلي أو بنمط متكرر. ولذا يصبح التأليف هو أن يحشد المؤلف أكبر قدر من المعلومات بغض النظر عن عدم ترابطها وعدم وجود بؤرة مركزية لها. والافتراض الكامن أنه كلما زادت المعلومات زادت درجة الاقتراب من الواقع (كما هو)، إلى أن يحشد الباحث كل المعلومات أو المراجع (أو معظمها)، ويعطينا صورة طبق الأصل من الواقع. وهو تصور يتضمن صورة للعقل بحسبانه كيانا سلبيا ….إن هذا الموقف الموضوعي المتلقي المعلوماتي ليس “موضوعيا” وإنما هو “موضوعاتي”، بمعنى أن الدارس يكتفي برصد التفاصيل والموضوعات وتسجيلها دون أن يربط بينها ودون أن يبين ما هو المركزي منها وما هو الهامشي، وما هو المعبر عن النمط الكلي وما هو مجرد واقعة غير ممثلة، وما يستحق الإبقاء وما يستحق الاستبعاد…” ( المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكري: في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية، دار الشروق، مصر، ط2، 2006، ص: 317)
بعبارة أخرى ، المعرفة تتعدى جمع و تكديس المعلومات ، فحين نركز غاية القراءة في جمع المعلومات و تكديسها في هذا المستوى، وليس في هذا عيب طبعا ، يمكن أن نقرأ لجمع معلومات جديدة حول موضوع ما ، و لكن التركيز على الكم من شأنه أن يؤدي إلى إغفال الأطر التركيبية الكامنة وراء المعلومة
ما المقصود بهذا؟
ربما يمكننا أن نضرب مثلا لتقريب المعنى الذي يرمي إليه المسيري بقنوات الإعلام والأخبار في هذا المقام ؛ فالقنوات المحترمة على الأقل غالبا ما تستخدم معلومات صحيحة ، و لكن هل تقديمها للمشاهد يكون دائما بتلك الموضوعية المزعومة؟ غالبا ما يتم التحكم في الصورة المبنية عبر المعلومات الصحيحة و كيفية وصفها لوقائع معينة ، حيث يتم صياغتها وتركيبها عن طريق طريقة طرح تلك المعلومات في ذاتها ، وسياق ذلك الطرح ، و نوع التساؤلات التي تطرح بشأنها و النقاشات التي تثار حولها ، كل ذلك من شأنه أن يغير من النتيجة التي يخرج بها المشاهد بخصوص تفسير تلك الوقائع، و هذه من الأمثلة البسيطة على ما أطلق عليه المفكر نعوم تشومسكي بتصنيع و هندسة الرأي العام
نقترب إذا بهذا المستوى من القراءة – المستوى الذي يهدف إلى جمع المعلومات – نقترب به إلى الفعل الحضاري بعض الشيء، و لكن لا نرتقي إليه بسبب إغفال البنى التحتية المعرفية التركيبية للأفكار المتضمنة في المعلومات.
جمع و تكديس المعلومات إذن، بالرغم مما فيه من فوائد ثقافية واجتماعية ، لا يرقى بعد للفعل الحضاري لأنه يغفل الأسس والأطر التركيبية التي تبنى عليها المعرفة. وهذا يتبين لنا جليا عندما ننتقل إلى المستوى الثالث من نشاط القراءة ونقابله بالميزة الأساسية الثلاثة التي حددناها لظاهرة القراءة
قلنا أن القراءة ، كجزء من عملية الترميز،لا تستوعب مضمون التاريخ فحسب بل تصبغه بخصوصية الأفراد والجماعات الذين يشكلونه كذلك ، بخصوصية حقبة ما ومكان ما تعكس رؤية أو رؤى معينة للواقع و أطر تفسيرية له. المستوى الثالث من نشاط القراءة ، الذي نبدأ من خلاله في الإنتقال من التلقّي الثقافي السلبي ذو النزعة المعلوماتية إلى الفعل الحضاري ، يشترط وجود وعي بهذه الميزة الأساسية للقراءة ثم القدرة على تقفي أثرها في النتاج الرمزي للمجموعات الإنسانية
الفكرة هنا هي أن تجارب البشر في زمن ومكان ما تتبلور في نماذج فكرية ، تنساب معالمها و تتسرب بدورها إلى كل أنواع إنتاجهم الرمزى و تتغلغل فيها مؤثرة بذلك على الوعي والسلوك والممارسة و المنظومات المعرفية والقيمية التي تنتج عنها. والوعي بهذا الإنسياب و التغلغل هو الخطوة الأولى للتفعيل الحضاري للقراءة ، و القدرة على تحديده و تقفي أثاره هو ما يعد ، في نظري ، ارتقاء إلى بدايات الفعل الحضاري.
لنضرب على هذا مثالا حتى يتبين المعنى ، يمكننا مثلا أن نبدأ في قراءة روايات ألبرت كامو المشهورة، فنتذوق طابعها الأدبي و نستمتع به ، ثم ننتقل بعد ذلك لفهم صلة التعابير التي فيها بأفكار إستدامة الرؤية الاستعمارية الإمبريالية حول إشكاليات التصادم بين المجموعات الإنسانية – كما قال إدوارد سعيد في نقده لكامو. ثم يمكننا التعمق أكثر عندما نتقفى أثر المرجعية التحليلية النيتشوية و الماركسية و بالخصوص تشخيصهم لظاهرة الاغتراب و نقدهم للحداثة و ما تغرسه في الإنسان من شعور بالضياع الناتج عن الإكراه الداخلي ، نجد انعكاس كل ذلك في كتابات كامو ، كما نجده كثيرا في روايات القرن العشرين، بما في ذلك كامو و كافكا، و غيرهم ، بل و لا يمكن فهم وجوه التعابير ودلالتها عند أولئك الكتاب من دون هذا الإطار الفكري و المرجعية المعرفية الكامنة وراءها
و قس على ذلك كل النتاج الرمزي للإنسان ، كتابات كافكا واستبطانها لفكر ماركس و فرويد ، والكتابات الأدبية للحركة الرومنسية للقرن التاسع عشر وتأثرها بأفكار سبينوزا حول وحدة الوجود…وما إلى ذلك
وكمثال أبسط لتقريب المعنى، يمكن الإشارة مثلا إلى الساحة السينمائية ، نجد دائما أن مستجدات العلوم و التكنولوجيا دائما ما تتغلغل إلى الإنتاج السينمائي ، فمثلا منذ بداية المهمات الفضائية إلى كوكب المريخ ، تزايدت عدد الأفلام التي أخذت هذه الفكرة الواقعية و صنعت منها أفلاما تسترسل في الخيال، من العيش في كوكب المريخ و اكتشاف مخلوقات فضائية فيه إلى غير ذلك ، فالتطور التكنولوجي والعلمي فتح آفاق جديد للتعبير الرمزي في هذه الحالة
و كذلك الأفكار و المرجعيات المعرفية، فهي تتوغل في النتاج الإنساني وتأثر فيه بطريقة مماثلة ، والوعي بالمنظومات والنماذج الفكرية التي تقف وراء المنتوج الرمزي – من كتابة و قراءة و غيرها – هو ما يمكننا من النقد الفكري لذلك المنتوج ، وأحد السبل الأساسية للوصول إلى تحديد رؤى قادرة على بناء وترسيخ منظومات فكرية معرفية قيمية بديلة لها القدرة على النهوض بالمجتمعات والوقوف في وجه الإمبريالية المعرفية والفكرية التي تميز حلبة السجال الأساسية في واقعنا اليوم
ويحضرني هنا أهمية دراسات المفكر مالك بن النبي – رحمه الله- عندما تحدث عن عالم الأفكار و فرّق بينه و بين عالم الأشخاص و الأشياء التي تخضع له و تتأثر به ، وكذلك ما قصده عبد الوهاب المسيري عند الحديث عن تأثير النماذج الفكرية واستخدامها كأداة لفهم البنية المعرفية للمجتمع.
و بذكر مالك بن النبي، نجد كذلك مثالا جليّا لمفعول الخصوصية الذي تحدثنا عنه عند تشخيص الميزة الثالثة لظاهرة القراءة – قلنا أن الترميز لا يدون التاريخ فحسب بل يصبغه بخصوصية الأفراد والجماعات و رؤيتهم للواقع وتفسيرهم له:
إذا أخذنا مفهوم النظام البيئي و تأثيره على الحضارة والاجتماع الإنساني، نجد مثلا أن أعمال إيميل دوركايم المواصلة لبعض أفكار مونتسكيو في هذا الجانب تعد من بين المساهمات الفريدة في فهم المجتمع الإنساني – هذا ما يقول به الفكر الغربي على الأقل – بينما يمكننا أن نتقفى خطا موازيا لمعالجة نفس الفكرة؛ أي فكرة التقاطع بين النظام البيئي و التشكيل الحضاري عند بن النبي -الذي نعته بالتراب في معادلته الحضارية المعروفة – وقبلهم جميعا ابن خلدون ، و من يتتبع معالجة دوركايم و مونتسكيو لهذه الظاهرة مقارنة بابن خلدون و بن النبي سيكتشف أثر ومفعول الخصوصيات الحضارية و المرجعية المعرفية في صياغة النماذج الفكرية البديلة
نجد أنفسنا في هذا المستوى من القراءة إذن وجها لوجه أمام الأفكار التي تكمن وراء الإنتاج الرمزي للحضارة الإنسانية، وجها لوجه أمام المرجعيات الفكرية و المعرفية الكامنة وراء الإنتاج الرمزي للإنسان ، والوصول لهذا المستوى من القراءة يكمن في تكثيف القراءة نفسها، و الكتابة كذلك ، لتصبح وسائل و أدوات للخوض الفكري و تفعيل الفكر البديل في البناء الحضاري ، و هنا و هنا فقط يمكننا أن نخطو الخطى الأولى نحو التفعيل الحضاري للقراءة و الارتقاء إلى بدايات الفعل الحضاري عبر هذا النشاط
لنحاول أن نلخص إذن
انطلقنا من التساؤل حول دور القراءة في الفعل الحضاري، تساءلنا ماذا يمكن أن نعنيه تحديدا عندما نقول إن من شأن القراءة أن تساهم في البناء الحضاري
وللإجابة على هذا التساؤل اقترحت عليكم شبه إطار تحليلي ينطلق من تحديد بعض الميزات الجوهرية للقراءة كظاهرة إنسانية تدخل ضمن منظومة الترميز الذي يميزنا عن باقي الكائنات، ثم قابلت كل ميزة من هذه الميزات بثلاثة مستويات من القراءة تتدرج، باعتبار فوائد القراءة ، من العزوف التام، إلى النشاط الثقافي ثم إلى بدايات الفعل الحضاري
الميزة الأولى تتعلق بالفرد و الفوائد الفسيولوجية و الإدراكية التي تعود عليه بها القراءة عليه ، فهناك من يقرأ للمتعة الفردية و للترويح على النفس
الميزة الثانية تتعلق بالجماعة و الثقافة، و خصوصا ميزة التواصل و تكديس المعلومات، فهناك من يقرأ ليتثقّف أي ليزيد من معلوماته حول موضوع ما، و يحسن من مهاراته ، وما إلى ذلك ، و في هذا فوائد فردية وإجتماعية ، و لكن بدون الرقي إلى الفعل الحضاري و ذلك بسبب إغفال المرجعية المعرفية التركيبية الكامنة وراء المعلومة
ثم وصلنا إلى بدايات الفعل الحضاري عند اعتبار الميزة الثالثة للترميز و هذا المستوى مستوى معرفي أساسا يرتكز على خاصية جوهرية في عملية الترميز و هي استيعابها للتاريخ و صبغته بالخصوصية الفردية والجماعية التي هي نتاج تجارب معينة في الزمان والمكان يعكس عن طريقها الأفراد والجماعات رؤيتهم و تفسيرهم للواقع
ولعله من المثير للإهتمام أن القراءة بذاتها هي أحد الوسائل الأساسية التي ترتقي بنفسها لذلك المستوى أي كل ما زدنا قراءة ، ليس كما فقط بل نوعا كذلك ، كلما زاد وعينا بالمستوى الثالث هذا
فلكي نصل لبدايات الفعل الحضاري، و لتفعيل القراءة حتى تساهم في الفعل الحضاري، علينا أولا أن نبتعد عن الكلام عن القراءة بالشعارات الخطابية الإنشائية الطوبوية الرومنسية و نركز على الجوهر بدلا عن ذلك؛ القراءة و الكتابة جزء من عملية الترميز ؛و الغاية الأهم هي الوصول إلى القدرة على التدبر و التفكر عن طريق الترميز، فكلاهما مجرد أداة ضمن أدوات الفعل الحضاري بهذا المفهوم
و كل فعل يتضمن رؤية تحتوي على أجوبة للأسئلة الكلية المعرفية و تتأثر بها (بما في ذلك هذه المداخلة)
لا يخلو أي إنتاج رمزي إنساني عبر تلك الأدوات – من كتب و فن و عمارة – من التأثر بمنظومة فكرية و نسق فكري و مرجعية معرفية ، سواء كان من أنتجه واعيا بذلك أم لا، و أحد الجوانب الرئيسية للرقي للفعل الحضاري عبر هذه النشاطات يكمن في الوعي بهذه الحقيقة ، ثم تتبعها و فهم ما نتفاعل معه يوميا من هذا المنطلق
و ختاما أريد أن ألفت الإنتباه إلى ما يمكن أن نفقده حين لا نفعّل القراءة – و باقي الأدوات – في المستوى المعرفي:
أولا ، سنواصل خضوعنا للهيمنة المعرفية الفكرية بعد ما شبه تخلصنا من الهيمنة الإستعمارية المباشرة ، فالصراع لا يزال مستمر و حلبة السجال التي نحتاج أن نخوض فيها اليوم و غدا هي حلبة معرفية فكرية
ثانيا، سنساهم في حرمان التاريخ مما يمكن لخصوصياتنا المعرفية و رؤيتنا و تفسيرنا للواقع الناتج عن تجاربنا من أن تضيفه إلى جملة الإبداع الإنساني التاريخي المشترك ، ومن هنا نتحدث عن المكانة التاريخية و استئناف الفعل الحضاري
، فالوعي بتلك الخصوصية وأثرها في تفسير الواقع هو ما يقودنا إلى تفعيل دورها في صياغة مفاهيم حضارية بديلة و تحليلات معرفية تفسر الواقع من منظور بديل
و لا مناص من الوصول إلى وضع بدائل معرفية ما دام المرام هو التحرر الإبستيمولوجي الذي نحن بحاجة إليه ، فإذا كان بن نبي – رحمه الله – قد شخّص لنا مشكلات الحضارة ، انطلاقا من رؤية كانت متأثرة بزمن ما و مكان ما هي الجزائر المستعمرة و الجزائر حديثة الإستقلال ، فنحن نحتاج اليوم إلى تشخيص مشكلات البدائل في خضم العولمة والإمبريالية و عنف الإحتكار المادي والمعرفي ، نركز في هذا التشخيص على مشكلات صياغة الرؤى البديلة و تفعيلها ، كمواصلة لعمل بن النبى، نساهم بها في عملية الاستئناف الحضاري
ما الهدف من الوجود إذا لم نساهم بوضع بصمة تجاربنا على تفسير الواقع و التطرق إلى المشاكل التي تواجه الإنسانية اليوم بحلول جذرية أصيلة ؛ و هنا تأتي أهمية مقولة المفكر أبو يعرب المرزوقي أن الإسلام دائما يأتي لحل مشكلات وجودية ، الفعل الحضاري الاستئنافي يكمن في تفعيل هذه الأصول لإسقاطها على الواقع المعاش وتحليله و تفسيره و الخوض في إيجاد حلول لإشكاليات الساعة ، فالعالم يتخبط في فوضى الظلم والفساد والإحتكار والإستغلال و في فوضى المعرفة و القيم و الأخلاق
فلا أريد إذن أن يفهم ما قلته خطأ، فهذه لم تكن دعوة للإنغلاق على النفس و صد النتاج الرمزي الذي أنتجه التاريخ والحضارات الفائتة و المعايشة ، بل بالعكس ، هذه دعوة للإنفتاح على النقد الحقيقي لذلك النتاج، و هذا يبدأ بالفهم العميق، ثم الجرأة على اقتراح البدائل ، و الله أعلم.
و في الأخير أتمنى أن هذه المداخلة لم تكن ثقيلة كثيرا عليكم
شكرا جزيلا مرة أخرى على هذه الفرصة و أحييكم مرة أخرى على هذه المجهودات و أناشدكم بالحرص على المداومة والإستمرارية و – بالخصوص – على وضع مثل هذا الحدث ضمن رؤية أكبر تستثمرونه فيها ، تسطرونها منذ الآن
منافسة ممتعة للجميع
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أسامة مطاطلة في، ٢٩ مارس ٢٠١٧
About the Author