بين الركود الأول الكامن والركود الثاني المصمَّم ، يتبين لنا أن الشعوب المستعمرة سابقا المضطهدة آنا أمام تحديات تحول دون تحقيقها لشروط السيادة وشروط الانعتاق الحقيقين، وهي تحديات تلخص ماهية القوى المضادة للنهضة -أو قل المضادة للحراك أو المضادة للثورة- تتمظهر على ثلاثة مستويات:
١. القوى المضادة الكامنة: أي المستوى الذاتي الذي تجسده رواسب الركود الأول؛
٢. القوى المضادة الدخيلة: أي المستوى الوصائي المضاعف الذي تجسده الأنظمة المنتدبة وأذرعها ونخبها التي تتصدر الواجهات السياسية والثقافية؛
٣.القوى المضادة الخارجية: أي المستوى الخارجي الذي تجسده قوى الاستعمار والإمبريالية الاستعبادية الدولية التواقة للهيمنة والسيطرة الدائمة
ومن ثم، فبدايات تحقيق شروط السيادة -والتي تتعدى المطالبة بها- تتمثل في مدى قدرة الشعوب على صياغة نماذج فلسفية وتشكيل آليات وممارسات سياسية تمكنها من تحقيق انعتاق حقيقي من الرواسب الكامنة التي تثبِّت القابلية للاستعمار، وذلك بنبذ عنفي التربية والسياسة، ومن تحقيق انعتاق حقيقي من قبضة المستعمر القديم\الجديد على مجالات الوجود الأساسية للفرد والمجموعة، وذلك بنبذ الأنظمة الفاسدة، ثم استرجاع السيادة على مجالي المكان والزمان وما يستلزمه ذلك من استفحال السيادة على النتاج المادي والرمزي الثقافي، تتفكك بهما آليات الهيمنة على هذه المجالات، هيمنة لاتزال تقوض القدرة على معرفة الذات وخصوصياتها التاريخية (وهي الهيمنة الإبستمولوجية) وعلى تحديد الهوية وخصوصياتها الحضارية (وهي الهيمنة الأنطولوجية).
نبذ العنف التربوي ونزع الوصاية التربوية لإصلاح مستوى الكمون الذاتي يتطلب وقتا، فالتحرر لا يكون إلا بالتربية البطيئة التي تجعل الإنسان بذاته يدرك شروط التحرر المعرفية والخلقية، كما يقول كانط [4]. وهي مقولة سبقه إليها ابن خلدون الذي شخص دور التربية الخالية من الوصاية في تنمية المعاني الإنسانية السامية [2]. ومن الجميل في حراك الجزائر -بعد امتداده لشهور عدة الآن- أن نرى تمظهر شعارات جديدة تعزز هذا المعنى. فعلى غرار ”يتنحاو ڤع“، ذلك الشعار الذي يعبر عن قلة حيلة وقصر نفس وتهافت في ذاته بسبب الغموض العملي الذي يتضمنه ، جاء في محطة تالية شعار ”يتربّاو ڤع“ (الكل يجب أن يربى من جديد) ليسم وعي الحراك بعمق تحرري جدير بالتعزيز لأن فيه اعتراف بالتحدي الحقيقي الذي يجب مواجهته لنزع رواسب الركود الأول الكامن في مجتمعاتنا.
ثم أن كسر الهيمنة على مجال المكان يستدعي كسر حاجز التجزئة على المستوى المادي وفضاء التعمير، وكسر الهيمنة على مجال الزمان يستدعي كسر حاجز التجزئة على المستوى الفكري وفضاء الترميز، ثم وصل كلاها بالمرجعيات والخصوصيات الثقافية والحضارية.
وجملة هذه الشروط هي ما يمكن أن نطلق عليه شروط تحقيق “القابلية للانعتاق” في الحس الجماعي للشعوب المستعمرة سابقا المضطهدة آنا. وهنا ينبغي أن نعيد التأمل في المفهوم البنابي للقابلية للاستعمار“ [1]؛ إذ أن ما ساير تشكل تلك القابلية عند شعوبنا كان صورة منعكسة وموازية لها عند شعوب القوى المستعمِرة تمثلت في نمو ”قابلية لاستعمار الغير“ في حسها الجماعي. وقد أسهب إدوارد سعيد كتابة في التعريف بهذا التوازي ضمن مقولاته الفكرية حول الاستشراق [5, 6] محددا فترة نهاية القرن الثامن عشر، بين الثورة الفرنسية سنة ١٧٨٩ والاحتلال الفرنسي لمصر سنة ١٧٩٨، ونهاية القرن العشرين كمرحلة أساسية تم فيها تشكل هوايات أوروبية استعمارية في تلازم ضروري مع أوج التطورات التي أدت إلى تفشي رواسب الركود الأول عند الشعوب العربية والمسلمة التي أشرنا إليها سابقا.
يمكن أن نستخلص إذا أن إكتمال إرساء أسس تحقيق شروط القابلية للانعتاق، يفرض وجوب إدراك أهمية العمل على تأسيس سبل لتكريس صورتها المنعكسة والموازية عند شعوب القوى المهيمنة اليوم، فنساعد بذلك على قلب العلاقة بين هاته الشعوب من علاقة سيطرة (أي بين القابلية للإستعمار و القابلية لاستعمار الغير) إلى علاقة مساوات في تحديد مصير الإنسانية المشترك (أي بين القابلية للانعتاق وما يمكن أن نطلق عليه ”القابلية للانعتاق مع الغير“) والتي من شأنها الحد من عملية المحاولة على السيطرة الدائمة على الغير بقلب معادلة الإستقلال\الحدث و الإستعمار\العملية إلى الإستقلال\العملية والإستعمار\الحدث .
شروط تحقيق سيادة الشعب إذن -التي تتعدى المطالبة بها- هي شروط تحرير إمكانيات تحققها ضمن مجالات الوجود الإبستملوجية والأنطلوجية من جهة وممارسة مقاومة القوى المضادة التي تحول دون تحقق تلك الإمكانيات في مستوياتها الثلاثة؛ الكامنة الذاتية، الدخيلة العميلة، والخارجية التواقة للهيمنة والسيطرة الدائمة. ومما يساعد على ذلك تجاوز محلية وإقليمية النضال إلى العالمية، فنكون أمام فرصة تاريخية لتثبيت أسس القابلية للانعتاق و تكريس سبل تحقيق صورتها المنعكسة والموازية -كما كرست الصورة المنعكسة والموازية للقابلية للاستعمار. وستكون الشعوب السبّاقة لهذا العمل في صدارة التحول الثوري الحقيقي وقيادة التيارات التحررية العالمية الجديدة. وهذا نداء لتدويل المقاومة -وليس لتدويل القضية بمعناها الذي يتوجس منه الحراكيون اليوم، وهم في ذلك على حق- ولضرورة إرساء معالم اصطفاف واضحة لريادة استئناف ثورات الشعوب العربية، نتلاحم بها مع المقاومات الشعبية الإقليمية لنحدد معا وجهة انعتاقية جديدة ومشتركة من شأنها فك قيود الأوطان المستعمرة والشعوب المستضعفة اليوم.
وجب إذن تحديد ماهية الثورة التي ستحقق السيادة باعتبارها مجموعة شروط تكريس القابلية للانعتاق محليا وإقليميا وعالميا، وهذا ما سيتطرق له الجزء القادم و الأخير من هذه السلسة.
About the Author